Minggu, 25 Januari 2009

العصبية و أعمار الأُمم

إعلم أن الدولة لها عمر طبيعي كما للأشخاص و هو عمر ثابت معروف إذ أن الدولة لا تعدو في الغالب أعمار ثلاثة أجيال. و الجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين سنة الذي هو انتهاء النمو و النشوء، كما قال الله تعالى: ]و وصَّينا الإنسان بوالدَيه إحساناً، حَمَلتهُ أمهُ كُرهاً و وَضعَتهُ كُرهاً، و حملُهُ و فِصالُهُ ثلاثون شهراً. حتى إذا بلغ أَشُدَّهُ وبلغ أربَعين سنة...[ (الأحقاف:15)، و لنا في قصة تيه اليهود دليلاً قاطعاً على ذلك. إذ أنه لما تقاعس اليهود عن الجهاد، حَرّم الله فلسطين عليهم، و جعلهم يتيهون في صحاري سيناء أربعين سنة، ليفنى الجيل القديم و ينشئ جيل جديد قادر على الجهاد: ]قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين[ (المائدة:26). و هنا فإن الله تعالى أكد على الأربعين سنة، و لم يكن ليذكر في كتابه الحكيم كلمةً أو رقماً بغير معنى، تعالى الله عن هذا. و قال أيضاً: ]و تلك القرى أهلكناهم لما ظلموا و جعلنا لمهلكهم موعداً[ (الكهف:59). و قال: ]و إن من قريةٍ إلا نحن مُهْلِكُوهَا قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً. كان ذلك في الكتاب مَسطوراً[ (الإسراء:58). فالله جعل لكل أمة عمراً و أجلاً في كتابٍ عنده، لا يمكن لأي قوة تغيير ذلك. قال الله تعالى: ]ما تَسبِقُ مِن أُمَّةٍ أجَلها و ما يَستَأخِرون[ (الحجر:5 و المؤمنون:43). وقال جلّ شأنه: ]قُل لا أملِكُ لِنَفسي ضَرّاً و لا نفعاً إِلا ما شاء الله. لكلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إذا جاء أَجَلُهُمْ فلا يَستأخِرونَ ساعةً و لا يَستَقدِمونَ[ (يونس:49). وقال كذلك: ]و لو يُؤاخِذُ اللهُ الناسَ بِظُلْمِهِم ما تَرَكَ عليها من دابَّةٍ، و لكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمّىً. فإذا جاءَ أجَلُهُمْ لا يَستَأخِرونَ ساعةً وَلا يَستَقدِمونَ[ (النحل:61). و أما الثلاثة أجيال فتفصيلها كما يلي:

1ـ الجيل الأول

هنا تكون العصبية في أشد قوتها –و العصبية هي تفضيل الفرد مصلحة الجماعة على مصلحته و بذل النفس و المال في ذلك–. و يكون الناس معتادين على الخشونة والقوة و متحلّين بالعمل و النشاط و مشتركين بالمجد و الرئاسة و الحُكم. فينهضون بالدولة و ينمو الاقتصاد و يفيض المال و تتوسع حدود الدولة و تكون قوية عزيزة مرهوبة الجانب.

2ـ الجيل الثاني

يبدأ الترف، فيميل الناس إلى الاستكانة و الدعة، و تضعف العصبية و تنكسر سورتها. و لا يسع الناس أن يدعو كل ما شاهدو عليه آبائهم من العصبية و الخشونة، فيبقى لهم بعض الهيبة مما ورثوه من آبائهم.

3ـ الجيل الثالث

و هؤلاء يبلغ بهم الترف و الدعة و الإسراف حداً ينسيهم العصبية و الخشونة و يستبد بهم الجبن و الضعف و الكسل و يميل حاكمهم للاستبداد بهم و يعتادون على الذل و الاستكانة، فتضعف الدولة من الداخل. و يستبد بهم الفسق و الفساد و التبذير. و يشتغلون بجمع المال و إسـرافه. و تزداد بهم الروح الفردية. و يتمسكون بالأبّهة و المظاهر، ليحموا بها أنفسهم. و يبدأ العجز الاقتصادي، و تهرم الدولة و تشيخ و تتفتت، حتى يأتي الله بأمره و يأذن بخراب الدولة كما سيأتي لاحقاً. و لا يكون خراب الدولة إلا بعد ظهور هذا الفساد حتى يجاهر الناس به علناً كما قال ربُّ العِزّة: ]و إذا أردنا أن نهلك قرية امرنا مُترفيها، ففسقو فيها، فحقّ عليها القول، فدمرناها تدميرا[.

السراء و الضراء و صحوة الموت:

إعلم أن الله لا ينزل عذابه بقوم حتى ينذرهم و يقيم عليهم الحجة كما قال و قوله الحق:

]و ما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء و الضراء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا و قالوا قد مس آباءنا الضراء و السراء، فأخذناهم بغتة و هم لا يشعرون[[1]، و قال أيضاً: ]و لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء و الضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون * فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مُبْلِسُون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين[[2]. و اعلم أن الأمم لا يمكن أن تعود إلى الجيل الأول إلا بأن يذوقو العذاب الأليم: ]و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهُمُ الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلين أو يأتيَهُمُ العذابُ قُبُلاً [[3]. و لكن الأمة تبدو شديدة القوة قبل دمارها، و يتوهَّم شعبها أن الغلبة لهم، و هي عليهم. و لك في قصة فرعون و حرب قرطاجة مع روما و ما ظهر لألمانيا و اليابان في الحرب العالمية و ما حصل للعراق في حرب الخليج –كما سيمر لاحقاً– أمثلةً واضحةً على ذلك. و يسمى هذا الوهم صحوة الموت.

و يكون من ذلك كله أن عمر الدولة تقريباً مئة و عشرون عاماً لا تزيد إلا في حالات قليلة (حالة الحرب الأهلية)، فيكون بعدها الجيل الرابع.

4ـ الجيل الرابع

و هؤلاء هم أشقى الناس و أفسدهم، و هم الذين ينزل عليهم غضب الله، و يكون خراب الدولة على يدهم. و ذلك يكون بإحدى ثلاثة أمور:

1) الحرب الأهلية

قد يحدث بعد الجيل الثالث أن يرى الحاكم ضعف أمته و ترفهم، فيستعمل جيشاً من الموالي أو المرتزقة ممن اعتادوا الخشونة، أو أن يستعمل في الحرب أسلحة مطورة تغني عن الشجاعة الفردية أو الالتحام البري (و هذا خاصٌّ بعصرنا)، فيُكسب الدولة عمراً جديداً قصيراً نسبياً (حوالي 15 سنة أو أكثر قليلاً) إلى أن تصل الروح الفردية بين الناس لدرجة تفكك المجمع و تقسمه، إلى أن يعادي الناس بعضهم بعضاً فتشتعل حرب أهلية تخرج الناس من ترفهم و كسلهم. و يجعل الله بأسهم بينهم، فيدمّرون ما قد بناه أجدادهم و يقتلون بعضهم بعضاً و يخربون دولتهم بأيديهم. و ربما تجتاح دول أجنبية أجزاء من أراضيهم فلا تجد من يقاومها.

تستمر الحرب الأهلية لفترة تقارب الفترة التي عاشتها الأمة زيادة عن عمرها يعتاد الناس خلالها على التقشف و العمل. ثم تهدأ الحرب بانتصار إحدى فئات المجتمع (الأفقر و الأقل نصيباً في المجتمع) أو تنتهي بتجزئة الدولة، ثم تمر الدولة بفترة هدوء (13–15) سنة تلتئم خلالها الجروح و يرى الناس خطأ أفكارهم و معتقداتهم و ما جرتهم إليه الروح الفردية فينبذون الفرقة و التباغض بينهم تدريجياً، إلى أن يفنى الجيل الرابع و يخرج جيل جديد اعتاد على الخشونة و النشاط و ابتعد عن اللهو و الترف. و هؤلاء يكوّنون الجيل الأول، و يُعيدون بناء الدولة. و الله مبدّل الليل النهار، و الله على كل شيء قدير.

2) الحرب المدمرة

تدخل الدولة في حرب مع دولة قوية أخرى. و مع أنها أحياناً تبدو الأقوى، إلا أنه لا تلبث أن تلحق بها هزيمة نكراء بسبب ترف أهلها و تقاعسهم في الدفاع عن وطنهم و اعتيادهم على ذلّ الاستكانة. هذه الحرب قد تعيد الناس إلى الجيل الأول إذا توفرت لها الشروط التالية:

1) حربٌ مدمِّرةٌ تدمر إمكانيات البلاد و تهدم بيوتها و تدك مصانعها و تحرق مزارعها.

2) خسارة فادحة في الحرب يكون لها أثر معنوي عميق في نفوس الناس.

3) حصار و عزلة عن العالم الخارجي يدوم 13 سنة.

4) مجاعة قاتلة تنجم عن تدمير البلاد و عزلتها.

5) احتلال و لو جزء صغير من البلاد و وقوعه تحت السيطرة الأجنبية.

و في هذه الظروف الشديدة يشعر الناس بكراهية لكل ما هو أجنبي و بمحبة لكل ما و هو وطني و يبدءون شيئاً فشيئاً بالتضامن و تبدأ العصبية تسري في عروقهم. و يرون بطلان مذاهبهم و لهوهم، فيعودون إلى تقاليدهم، و تنتعش الروح الدينية. و يجبرهم دمار بلادهم و قسوة المجاعة و الحصار، على العودة إلى الخشونة و نبذ الترف. و يدفعهم انتهاك الأجنبي لسيادة وطنهم و احتلاله جزء من أراضيهم، إلى بذل النفس في سبيل استعادة الوطن كرامته. و تؤدي العزلة و الهزيمة إلى بذل النفس في سبيل استعادة الوطن لكرامته و إلى الاعتماد على الذات. ثم يبدأ الناس بإعمار بلادهم و تحقيق الاكتفاء الذاتي إلى أن تمر فترة الـ13 سنة و تصل الدولة إلى مرحلة تنتج كل ما تحتاجه. و يصل الناس بأخلاقهم إلى الجيل الأول. و هنا تعود الدولة فتبدأ من جديد فتحرر أراضيها و ينتعش اقتصادها و تهزم أعدائها في فترة 10 سنين. و الله يخلق ما يشاء.

3) الحكم الاستبدادي

و هو أشد أنواع العذاب. و يكون أن تصل الأمة بعد الجيل الثالث إلى مرحلة من الضعف و الذل و الاستكانة و الترف فلا يستطيعون أن يقاتلون أو يقاومون أبداً. فيأتي شخص و يستبدّ بالحُكم فلا يجد من يقاومه. و غالباً يكون الحاكم من فئة مستضعفة أو مغلوبة أو فقيرة، فلا يكون الترف قد أخذ كل عصبية هذه الفئة. فتقوى و تستولي على الدولة كلها و لا تجد من يقاومها. و خلال هذه الفترة الطويلة، يهمَلُ العِلمُ و ينتشر الفقر و يزيد الجهل و تتوقف الصناعات و يتراجع الاقتصاد. و ربما تَرَافَقَ هذا بهزائم عسكرية تزيد الوضع سوءاً. إلى أن يهلك اللهُ هذا الجيل، و ينشأ الجيل الجديد في ظلٍّ من الخشونة و يمتلئ بالعصبية و القوة. و تكون الفئة الحاكمة قد أخذها الترف و أذهب عصبيتها، فيثور الناس عليهم و يطيحون بحُكْمهم، و يعودون للجيل الأول. و الله وارث الأرض و من عليها.



[1] (الأعراف: 94-95).

[2] (الأنعام: 42-45).

[3] (الكهف: 55).

العصبية في التاريخ القديم

إعلم أن العصبية كانت عاملاَ مؤثراً في التاريخ منذ بدايات التاريخ البشري. و انطبقت قواعد التاريخ على التاريخ القديم تماماً كما تنطبق اليوم على زماننا. و الأمثلة على الحرب الأهلية و الحكم الاستبدادي كثيرةٌ، على أننا قَلما نجد مثالاً على الحرب المدمرة.

و تعتبر الحرب الفينيقية الثانية[1] بين قرطاجة[2] و روما أحد أوضح الأمثلة في التاريخ القديم على نظرية الحرب المدمرة. إذ كانت قرطاجة و روما في الجيل الثالث، أي في أوج ترفهما و فسقهما و ثرائهما. لكنّ أحداً منهم لم يكن مستعداً للموت في سبيل وطنه. و كانت قرطاجة أشد غنىً و ترفاً لسيطرتهم على التجارة البحرية في العالم آنذاك[3]. فاعتمد قائد الجيش القرطاجي[4] (هاني بعل[5]) على المرتزقة. فعبر جبال الألب و معه الفيلة[6] ثم انتصر على الروم في معارك حاسمة[7]، ثم فرضَ إسطول قرطاجة حصاراً بحرياً محكماً على روما و عزلها عن العالم الخارجي. فعيّن الرومان ديكتاتوراً[8] بدلاً من الحكم الديمقراطي الضعيف الذي كان سائداً من قبل. و مع ذلك انتصر هاني بعل في معركة كانا الفاصلة[9]. و لمّا طلب الإمدادات من وطنه قرطاجة ليغزو روما و يحسم الحرب، بخِل تجّار قرطاجة بدفع المال له[10]، و لم يكن لدى هاني بعل المال الكافي ليدفع إلى المرتزقة[11].

و خلال تلك الفترة فإن الرومان، و من خلال عزلتهم عن العالم و الفاقة التي أصابتهم، و الهزائم المتوالية التي مني بها جيشهم، و المدن الكثيرة التي خسروها، فإنّ هذا شكّل الظروف المثالية التي أجبرت الناس على العودة إلى حال الجيش الأول من بذل النفس و المال في سبيل الجماعة، و في العيش على الشظف القليل. و لذلك كانت قوّة روما تزداد تدريجيّاً. ثمّ بدأت المدن الإيطالية تدريجيّاً تسقط أمام الرومان، حتّى إذا اكتملت الـ13 سنة سقطت إسبانيا[12]. و أخيراً غزا الرومان قرطاجة نفسها[13]، و أُجْبِرَ الرومان القرطاجيين على توقيع معاهدة سلام مُهينة[14].

لم يفقد هاني بعل أيّ معارك رئيسيّة في إيطاليا، و قد قتـَّلَ على الأقلّ 100،000 جنديّ رومانيّ في خمسة عشر سنة، و دمّر الرّيف الإيطاليّ و 400 مدينة في إيطاليا الجنوبيّة وحدها. و مع ذلك فشل أن يفوز بالحرب رغم عبقريّته العسكريّة و استخدامه للأسلحة المتطورة (كالفيلة). لماذا؟

السبب أنّ أعظم ما يكون البخل في الناس هو في الجيل الثالث، رغم كثرة ثرواتهم. و بالتالي فإن رفض مجلس الشيوخ قرطاجة أن يمدّ هاني بعل بالإمدادات الكافية (سواءً بالنفوس أو الأموال) سبب كافٍ للهزيمة. من النّاحية الأخرى، أصبحت روما أثناء 13 سنة، أمّة قويّة جدًّا.

إننا نلحظ بوضوح هنا الفرق بين الحكم الديمقراطي و الاستبدادي. فقرطاجة كانت أكثر ديمقراطيّةً من روما، بل كان الفينيقيون أشد الشعوب القديمة ديمقراطيّةً. و كان لدى هاني بعل المساندة الشّعبيّة في قرطاجة نفسها و في كثيرٍ من المدن الإيطاليّة، مع إقرار المؤرخين كلهم بأنه كان أكثر رحمةً من الروم. و بالرّغم من أنّ هاميلقار و ابنه هاني بعل كانا قادرين أن يسيطرا على قرطاجة و ثمّ الحصول على قوّةٍ كافيةٍ للفوز بالحرب، فلم يفكّر أحدٌ منهما بعمل ذلك لشدة تقديسهم للديمقراطية. و لذلك فإن الديمقراطية تكون قوّةً للأمة في أوّلها لما يشترك الناس به من المجد على قوتهم و شجاعتهم. أما في آخر عهد الأمّة فإن العصبيّة تضعف و النفوس تجبن و تخور، فتكون الديمقراطية وبالاً على الأمّة لما تسبّبه من فوضى و ضعف و قلّة حزم.

على أيّةِ حال فبعد هزيمة قرطاجة، صار الغرب –للمرّة الأولى في التاريخ– هو القوّة المسيطرة على البحر المتوسط و أغلب العالم القديم، و ذلك لوقت طويل حتى جاء العرب المسلمون فانقلب الأمر إليهم من جديد. و الله يفعل ما يشاء، إنه عليمٌ خبير.



[1] حدثت الحرب الأولى (264-241 ق.م) بين روما و قرطاجة و انتهت بفوز غير حاسم لروما. أما الثانية التي نتحدث عنها (218-201 قبل الميلاد)، فكانت أشد ضراوة بكثير من الأولى و انتهت بنصر حاسم لروما.

[2] قرطاجة مدينة قرب تونس العاصمة. بنتها الملكة الفينيقية أليسار عندما هربت من صور على الساحل الشامي. و صارت قرطاجة دولة عظيمة تسيطر على غرب البحر المتوسط عسكرياً و تجارياً. و الفينيقيون هم أصلاً عرب قدامى و تحدّثوا لغة السّريانيّة التي يمكن أن تعتبر لهجة العربيّة قديمة.

[3] زِد على ذلك أن قرطاجة كانت أكثر ديمقراطيّة بكثيرٍ من روما.

[4] أفضل القادة العسكريّين في التّاريخ هم (حسب الترتيب التاريخي) هاني بعل، و الإسكندر المقدوني، و خالد بن الوليد، و جِنْغيز خان المنغولي، و محمّد الفاتح العثماني (فاتح القسطنطنية)، و نابُلْيون بونابارت. و هاني بعل أيضًا هو القائد العربيّ الوحيد الذي استعمل الأفيال كسلاح عسكريّ ناجح. و قد عاش في الصحراء متخفيّاً حياةً صعبةً شاقة جعلته مختلفٌ عن باقي الفينيقيين، أضف إلى ذلك أن أباه هو همليقار برَقة القائد القرطاجي الأول في الحرب الأولى.

[5] هاني معناها سعيد، و بعل هو اسم الآلهة عند الفينيقيين الذي كان في السابق الإله الوحيد.

[6] كان ذلك عام 218 ق.م. و لا شكّ أن عبوره لجبال الألب الثلجية خلال الشتاء مع الفيلة الإفريقية عمل خارق.

[7] عام 217 ق.م.

[8] هو بالأصل قائد عسكري فذّ، و اسمه: Quintus Fabius Cunctator.

[9] معركة كانا هي من كبرى المعارك في التاريخ، إذ هزم جيش هانيبال (45 ألف) جيشاً عرمرماً من (80 ألف)، و لم ينج من الروم إلا حوالي السبعين. و قد حصلت المعركة في صيف 216 ق.م.

[10] قال أعضاء برلمان قرطاجة: « إذا فاز هاني بعل فهو لا يحتاج إلى الإمدادات! و إذا خسر هو لا يستحقّ الإمدادات». فيا لها من صفقة خاسرة كلّفتهم إنهاء دولتهم إلى الأبد.

[11] أغلب جنوده كانو من حلفائه الإسبان، و قليل من سكان جنوب فرنسا. أضف إلى ذلك حلفائه الإيطاليين.

[12] عام 206 ق.م.

[13] تمّ الغزو عام 203 ق.م. و انهزم هاني بعل في زاما عام 202 ق.م.

[14] عام 201 ق.م.

العصبية في التاريخ الإسلامي


العرب قبل الإسلام

إعلم أن العرب كانت في الجاهلية قبائل بدوية متناحرة لا يجمع بينها رابط أو عصبية. حتى إذا جاءت الدعوة الإسلامية، كانت القبائل العربية تنهض من حروب أهلية طويلة مضنية، بينما تعاني دولتي الحيرة و الغساسنة من سيطرة الروم و الفرس عليهما و دخولهما في رحى الحرب بينهما. و عانت اليمن من احتلال الأحباش و الفرس. لقد كانت العرب تتطلع إلى الخلاص إلى معجزة توقف نزيف الدم المستمر و تخرجهم من دوامة الفقر و التفرق. هذه الحروب قد ساعدت في إخراج العرب إلى الجيل الأول و هيئت بيئة خصبة للإسلام. و هي أقرب ما يكون إلا ما سميناه بالحرب الأهلية.

و رغم ما كان في العرب من خصال حميدة على غيرهم من الأمم كالكرم و الشجاعة فإن أحداً لم يكن و لا حتى يتوهم بأن تلك القبائل المتناحرة المتقاتلة ستجتمع يوماً ما تحت إمرة رجل واحد و تكون لهم عصبية واحدة. و هذا لأن جمع تلك القبائل البدوية ذات العصبيات المختلفة في دولة واحدة، أمر لا يمكن أن يكون بالقوة و الاستبداد. فقد حاول أحد أباطرة الروم غزو الجزيرة فهزم جيشه في الصحراء. و هُزِم الفرس أيضاً في ذي قار فلم يتجاوز حكمهم الفرات. و حاول الأحباش بقيادة أبرهة احتلال مكة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سِجِّيل، فجعلهم كعصفٍ مأكول. فلم تتمكن أي من تلك الأمم –على قوتها و عظمتها– من احتلال جزيرة العرب فضلاً أن تتمكن من جمع قلوب أهلها على عصبية واحدة.

و الحق يقال أنه لو لم يكن لنبينا محمد r معجزة إلا توحيد العرب على العصبية الإسلامية، لكفت تلك على إثبات نبوته. و قد شهد الله على ذلك فقال ]وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[[1]. ذلك أنه لو كان يدعوهم في سبيل الدنيا، فإن النفس تنزع للاختلاف طمعاً في مال أو منصب أو جاه. فيستحيل محو عداوات دامت مئات السنين. و يتعذر أن ينسى أولئك الأعراب أمجاد و حروب آبائهم. أما و قد دعاهم للآخرة، فإن النفس تترفع عن حطام الدنيا كله في سبيل الأجر من الله عز و جل. و ما عند الله خير و أبقى.

المسلمون في العهد المكي

عانى المسلمون خلال ثلاثة عشر عاماً من الدعوة المكية الكثير من الأذى و التعذيب و القهر و الحصار و الجوع حتى اشتدت عصبيتهم و قويت شوكتهم. و لذلك أصبحت عصبية المهاجرين فيما بعد أقوى من عصبية الأنصار و باقي العرب.

و قد كان بإمكان رسول الله r أن يدعو الله على من يعذبهم فيهلكهم الله كما فعل بأقوام من قبلهم. إلا أن الله كان له حكمة عظيمة في عدم إهلاك قريش. و من ذلك أنه أراد أن يشرع ما نسميه بفقه الاستضعاف، ليعلم الأجيال المسلمة القادمة الصبر و الانتظار و عدم التعجل حتى تقوى عصبيتهم و يكثر عددهم و تشتد قوتهم. فيمر رسول الله r بعمار وأم عمار وهم يُعَذَّبون بمكة فيقول: «صبراً يا آل ياسر، فإنَّ مصيركم إلى الجَنّة». ثبت في الصحيح عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ[2] فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ. قُلْنَا لَهُ أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا[3]؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَ مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَ يُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَ مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَ اللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ[4] حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ. وَ لَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ[5]»[6].

وقال سيد قطب: «ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية و إعداد في بيئة معينة لقوم معينين وسط ظروف معينة. و من أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به، ليخلص من شخصه، و يتجرد من ذاته، و لا تعود ذاته و لا من يلوذون به محور الحياة في نظره، و دافع الحركة في حياته. و تربيته كذلك على ضبط أعصابه فلا يندفع لأول مؤثر كما هي طبيعته، و لا يهتاج لأول مهيّج، ليتم الاعتدال في طبيعته و حركته. و تربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته، و لا يتصرف إلا وفق ما تأمره مهما يكن مخالفاً لمألوفه و عادته. و قد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي لإنشاء المجتمع المسلم الخاضع لقيادة موجهة»[7].

و هذا لم يكن اجتهاد من أحد بل كان أمراً من الله عز و جل. و لهذا فقد قال رسول الله r لمن قال له من أصحابه: «كنا في عز و نحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة»، «إني أُمِرْتُ بالعفو فلا تقاتلو..» الحديث[8]. و عندما استأذنه أهل يثرب ليلة العقبة أن يميلو على أهل مِنى فيقتلوهم، أجابـهم رسول الله r: «إني لم أؤمر بـهذا»[9].

و سنمر على هذا إن شاء الله في بحث الخوارج و البغاة. و لكن بحثنا سيكون رداً عن بعض الجهلة الذين يتوهمون أن كل فقه الاستضعاف و كل ما نستفيده من السيرة النبوية في العهد المدني، منسوخ لا فائدة من ذكره! و يزعمون أن آية السيف في سورة التوبة نسخت كل آية سبقتها عن الجهاد أو الصبر على أذى المشركين، أي أن عدد هذه الآيات المنسوخة يبلغ مائة و أربع عشرة آية!

و هذا خطاً بالتأكيد لأن الحكم يدور مع علته وجوداً و عدماً. قال السِّـيوطي في أقسام النَّسخ من الإتقان: «ما أمر به لسبب ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف و القلة و الصبر و الصفح، ثم نسخ بإيجاب القتال. و هذا في الحقيقة ليس نسخاً بل هو من قسم المنسأ كما قال تعالى ]أو ننسأها[ فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، و في حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى»[10]. و قد ذكر الزركشي قبله مثل ذلك[11]. و تبعه في ذلك الزرقاني[12] و رشيد رضا[13] و سيد قطب[14]. فيقول الأخير مثلاً: «إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعاً معيناً. و هذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. و في هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية، لأن واقعها يقرر أنـها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام. و لكن هنا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، و أن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدماً في تحسين ظرفها، و في إزالة العوائق من طريقها، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في سورة التوبة، و التي كانت تواجه واقعاً غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية»[15].

و اعتبر علماء السلف أن المرحلة الأخيرة للجهاد ناسخة لبقية المراحل. و هذا مروي عن كثير من السلف مثل ابن عباس، و الضَّحَّاك، و مجاهد، و الحسن، و عِكرمة، و قتادة، و عطاء، ثم من تبعهم مثل ابن تيميّة، و الشّوكاني، و القرطبي. و هذا لا يتعارض أبداً مع قول المتأخرين، لأن الإختلاف هو على مصطلح و تعريف النسخ فحسب. فالنسخ عند المتأخرين معناه الإزالة نهائياً، بينما عند السلف معناه أوسع إذ يشمل التقييد و البيان و التخصيص. و قد أثبت ذلك إبن تيمية في شرحه لمفهوم النسخ عند السلف[16].

و إلا فالسلف لا يكلـِّفون المستضعَف من المسلمين الذي حاله مشابهة لحال الرسول في مكة بالقتال. و إنما الواجب عليه أن يجتهد لكي يصل إلى حال قوة يجاهد فيها الكفار. إذاً لقد اتفق العلماء المتقدمون و المتأخرون على أن سورة التوبة لم تلغ أحكام الآيات التي سبقتها بحيث لا يجوز العمل بها في أي حالةٍ من الحالات التي تمر بها الأمة الإسلامية.

العصبية في العهد المدني

نجد أن الخزرج شاركوا في بدر أكثر من الأوس و ذلك لكون أخوال أبو الرسول r من بني النجار (طائفة من الخزرج)، ممّا يؤكّد على استمرار العصبية القبلية في الإسلام، و لو لم تكن ظاهرة لطغيان العصبية الدينية عليها. و خلال عشر سنين من الدعوة المدنية توسّعت الدولة الإسلامية، و قويت دعائمها، و امتدت لتشمل الجزيرة العربية بأكملها، و أسلم كلّ العرب. لكنّ الإسلام لم يستطع بــعــد أن ينتزع العصبية القبلية (من بعض القبائل التي أسلمت حديثاً) و يحلّ محلّها العصبية الإسلامية. و من هنا قلنا أن الدولة تحتاج إلى عشرة سنين في الجيل الأول حتى تبسط قوتها و يستتب لها الأمر.

و من المُسَلَّم به أن أشدَّ المسلمين إيماناً –بشكل عام– هم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم من أسلم قبل الفتح، ثم من أسلم بعده. و ذلك لأن من أسلم في مكة ببدء الدعوة و تحمل التعذيب الشديد، فإن العصبية عنده صارت أقوى من غيره. عدا أن من المتعذر أن يكون قد أسلم نفاقاً. أما من أسلم في المدينة قبل الهجرة فقد آمن رغم أن الإسلام ما يزال ضعيفاً، و لو أنه لم يتحمل ذلك العذاب، فالنفاق مستبعد إلا ممن أسلم مضطراً خوفاً من أن يفقد مكانته بين قومه كعبد الله بن أبي سلول. ثم أسلم أقوام كثر بعد الهجرة لما وجدوه أنه قد صار للمسلمين دولة ترعاهم. و لما دارت تلك المعارك الطاحنة بين الكفار و المسلمين كبدر و أحد و الخندق، كانت الكثير من القبائل تترقب و تنتظر من هو الغالب. فلما انتصر الإسلام و فتحت مكة في السنة الثامنة للهجرة، جاء العرب يدخلون في دين الله أفواجاً. و بذلك دخل كثير من الناس في الإسلام منجرفين مع التيار. و هؤلاء أغلبهم من المؤلفة قلوبهم ممن كان إسلامهم ضعيفاً و العصبية الجاهلية ما تزال متمكنة من نفوسهم، فكان هؤلاء عامة المرتدين فيما بعد.

حروب الردة

بعد وفاة الرسول r ارتدت معظم قبائل العرب رغم اقتناع معظم المرتدين بأن الإسلام دين حق و ذلك تعصباً لقبائلهم.

فقد روى الطبري في تاريخه[17] أن طلحة النميري قال لمسيلمة: «أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق. ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر» فقتل معه يوم عقرباء. أي أنهم عرفو أن الإسلام حق، و لكن لم يرضو أن يقفو مع قريش ضد رجل من قبيلتهم و لو كان على باطل. ولذلك قال عنهم الطبري بعد سرد عدة حوادث في هذا المعنى: «وكانوا قد علموا واستبان لهم (كذب مسيلمة)، ولكن الشقاء غلب عليهم».

وترجع عوامل الردة في المناطق الأخرى، إلى عدم تغلغل الإيمان في القلوب لتأخر إسلامهم و بسبب قصر الزمن الذي تم فيه تبليغ الدعوة، و طبيعة الأعراب المتسمة بالجفاء مع ضعف المستوى الثقافي، مما جر إلى ضعف فقه تعاليم الدين وخاصة بالنسبة للزكاة التي اعتبرها البعض ضريبة مهينة، و استثقلو الصلاة و العبادات الأخرى. كما أن العصبية القبلية لا زالت عميقة في تلك البلاد النائية و وسط نجد، حيث ترى القبائل أنها أضخم عدداً و عدة من قريش وبالتالي فهي أولى بالزعامة. وعلى الأقل لم تكن ترضى بالخضوع لحكم قريش. فمعظم المرتدين كانو من ربيعة ذات العداء التقليدي لمضر التي منها قريش و عامة الصحابة.

فهذه العصبية القبلية التي بقيت نتيجة ضعف الإيمان و حداثة الإسلام، قد استغلها قادة المرتدين خير استغلال علماً بأن أكثرهم لم يكن قد أسلم أصلاً. فقد خرج الأسود العنسي، على الرسول r بعد حجة الوداع في العام العاشر الهجري، كما جاء في الصحيح[18]، و لم يُعرف أنه كان مسلماً حتى يقال إنه ارتد عن الإسلام. و كذلك مسيلمة الكذاب، الذي قال: «إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته»[19]. و كذلك سجاح التميمية، كانت نصرانية و لم تدخل الإسلام أصلاً[20].

و قد اعتمدت الدولة الإسلامية على سند قوي من القبائل و الأفراد الذين ثبتوا على الإسلام، في قمع الردة. فقد اعتمدت على أهل المدينة ومكة والطائف و ما حولها من قبائل، و من ثبت في قبيلته في مراكز الردة، في تجهيز الجيوش للقضاء على المرتدين. و ما يردده بعض المستشرقون من أن جميع العرب ارتدت إلا المدينة و مكة و الطائف، فهذا فيه مبالغة كبيرة. إذ ثبت الكثير من قبائل العرب لكنهم بشكل عام كانو مبعثرين في الأرض و كثير منهم كان يخفي إسلامه خوفاً من اضطهاد قومه[21]. فلما جاءت طلائع الجيوش الإسلامية انضمو إليها.

و يغفل الكثير من المؤرخين دور الفرس في دعم المرتدين. و لولا تدخل بعض العناصر الأجنبية لصالح المرتدين لما تجرءوا على الوقوف في وجه المسلمين مدة طويلة، حيث أن فارس قد أمدت المرتدين في أرض تميم في البحرين بتسعة آلاف من المقاتلين، و كان عدد المرتدين ثلاثة آلاف و عدد المسلمين أربعة آلاف[22].

و نفهم مما روى البخاري من حديث أبو بكر الصديق t عن المرتدين: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ r، وَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ t، وَ كَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ. فَقَالَ عُمَرُ t: «كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ»؟ فَقَالَ «وَ اللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ. وَ اللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُو يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا». قَالَ عُمَرُ t: «فَوَ اللَّهِ مَا هُوَ إِلاَ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ t فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ»[23]. أن قتاله لهم كان لإجبارهم على دفع الزكاة و بالتالي الخضوع للدولة الإسلامية و ليس لإكراههم على الدخول في الإسلام. و الآيات في ذلك المعنى كثير منها:

]ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء...[[24]. ]فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعني و قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا و إن تولوا فإنما عليك البلاغ و الله بصير بالعباد[ (آل عمران:20). ]ما على الرسول إلا البلاغ و الله يعلم ما تبدون و ما تكتمون[ (المائدة:99). ]و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين[ (يونس:99). ]قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها و ما أنا عليكم بوكيل[ (يونس:108). ]و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر... [( الكهف:29). ]إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[ (القصص:56). ]نحن أعلم بما يقولون و ما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد[[25].

و الدليل على ذلك ما ورد من قصة بزاخة إذ عقد مع المرتدين عقد سلام مهين للمرتدين: فقد جاء وفد بزاخة و غطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية و السلم المخزية فقالو: هذه المجلية عرفناها فما المخزية؟ قال: «تنزع منكم الحلقة و الكراع و نغنم ما أصبنا منكم و تردون علينا ما أصبتم منا و تُدَوَّنُ قتلانا و تكون قتلاكم في النار و تُترَكون أقواماً يتبعون أذناب الإبل حتى يُرِيَ اللهُ خليفة رسوله و المهاجرين و الأنصار أمراً يعذرونكم به». فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال: «قد رأيت رأياً و سنشير عليك. أما ما ذكرت من الحرب المجلية و السلم المخزية فنعم ما ذكرت، و أما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم و تدون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، و أما ما ذكرت تدون قتلانا و تكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقُتِلَتْ على أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات». فتبايع القوم على ما قال عمر[26].

و الدليل الآخر أنه أخذ منهم أسرى و لو أراد أن يخيرهم بين الإسلام و السيف إذاً لقتل الأسرى جميعاً و لكنه عمل حسب فهمه للآية ]فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِدَاءً حتى تضع الحرب أوزارها ذلك و لو يشاء الله لانتصر منهم و لكن ليبلو بعضكم ببعض و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم[ (محمد:4) (و هي آية ناسخة لآية السيف عند بعض من قال بالنسخ)، و فهمه للحديث الشريف: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَ بِإِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٌ يُرْجَمُ، أَوْ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، أَوْ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ يُحَارِبُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ» (النسائي)

فالمرتد الذي يحارب الإسلام يُقْتَلُ أو يُصْلَبُ أو يُنْفى من الأرض (أو يسجن) و ليس القتل بالضرورة هو العقوبة إذ الحكمة أن نوقف هذا المرتد عن إيذاء الإسلام.

فانتصار الجيش الإسلامي على المرتدين أثبت تفوق العصبية الإسلامية على العصبية القبلية و أدى هذا الانتصار إلى تحطيم العصبية القبلية نهائياً و صهر الانتماء القبلي ببوتقة الدولة الإسلامية الواحدة. فعاد العرب إلى الإسلام كلهم و توحدت كلمتهم و دخل الإيمان في قلوبهم.

و لا بد من الإشارة إلى أن الصديق t لم يشرك أحداً من المرتدين في الفتوح، بل جردهم من السلاح، لأنه لم يأمنهم لحداثة عهدهم بالردة، و عقوبة لهم بإظهار الاستغناء عنهم. و لأن الصديق t لم يشأ للمرتدين أن يكونو طلائع الفتح الإسلامي، فلا يعطون سكان المناطق المفتوحة المثل السيئ للجندي المسلم. حتى جاء عمر t في خلافته فأذن لمن أثبت حسن إسلامه منهم بالمشاركة في الفتوحات. و لعل أشهر هؤلاء هو هو طليحة بن خويلد، بعد أن عاد إلى الإسلام و حسن إسلامه، شارك بنفسه في فتوحات العراق في خلافة الفاروق، و أبلى بلاءً حسناً في الحرب مع الروم.

الفرس تحت الحكم الإسلامي

بعد توحيد العرب بدأت الفتوح مباشرة و انهارت مباشرة دولة الفرس التي كانت في الجيل الثالث و سقطت بأكملها بأيدي العرب و اجتاحت جيوشهم معظم دولة الروم.

كان الفرس يعيشون في ترف و بذخ الجيل الثالث عندما أتى الفتح الإسلامي. و لذلك لم يدخل الإيمان في قلوب كثير منهم، و ظلوا حاقدين على الدولة الإسلامية يحاولون تخريبها من الداخل. فبعد مقتل الخليفة القوي عمر t على يد أبي لؤلؤة الفارسي (الذي يسميه الشيعة المعاصرون بابا شجاع الدين)، كان للفرس أثرهم الكبير في فتنة عثمان و ما تلاها من فتن كما سنرى.

هذا الحقد على العرب الفاتحين استمر عند الفرس حتى اليوم الحالي. يقول المفكر الإيراني المعاصر الإحقاقي: «إن الصدمات التي واجهها كل من شعبي إيران و الروم الكبيرين نتيجة لحملات المسلمين، و المعاملة التي تلقوها من الأعراب البدائيين الذين لا علم لهم بروح الإسلام العظيمة، أورثت في نفوسهم نزعة صدود عن العرب، و شريعة العرب، فطبيعة سكان البادية الأوباش الخشنة، و ذلك الخراب و الدمار اللذين ألحقوهما بالمدن الجميلة، و الأراضي العامرة، في الشرق و الغرب، و غارات عباد الشهوات العطاشى إلى عفة[27] و ناموس الدولتين الملكية و الإمبراطورية…الخ»[28].

و هذا هو السبب الرئيسي لبغض الشيعة لعمر، و هو تحطيمه دولة فارس. ففي مدينة كاشان الفارسية في شارع الفيروزي هناك مزار مقام في ميدان فيروزي، هو مزار لقبر المجوسي أبو لؤلؤة قاتل سيدنا عمر t[29]. و يسمون هذا المجوسي بـ (بابا شجاع الدين) و يقيمون التعزيات و اللطميات بذكرى موته، و يزعمون أن الله يرفع عنهم الحساب في ذلك اليوم[30]! و يدلّنا تسميته ببابا شجاع الدين على أمرين: الأول أن هذا المجوسي الفارسي هو الأب الروحي للإثني عشرية. الأمر الثاني أن تلقيبه بشجاع الدين يعني أن الديانة المجوسية هي الديانة الحقيقية لهم. و ما المسألة إلا اختلاف أسماء!

و نجد السبب نفسه في تعظيمهم لأولاد الحسين دون أولاد الحسن، لأن أولاد الحسين أخوالهم الفرس من زوجته شهربانو بنت يزدجرد[31]. و قد ذكر محمد علي أمير معزي الباحث الشيعي الإيراني بفخر «أن المفاهيم الأساسية من الزرادشتية دخلت إلى التشيع حتى في بعض الجزئيات الصغيرة (!). و أصبح زواج سيدنا حسين ببنت آخر ملوك آل ساسان رمزا لإيران القديمة، بحيث أصبحت تلك الفتاة هي الأم الأولى لجميع أئمتهم. و قد انعقد بها عقد الاخوة بين التشيع و إيران القديمة المجوسية». و كذا تعظيمهم لسلمان الفارسي من دون الصحابة حتى قالوا أنه يوحَى إليه لا لشي إلا أنه فارسي[32]. و لهذا يروون في كتبهم عن علي بن أبي طالب t أنه قال عن كسرى: «إن الله خلصه من عذاب النار، و النار محرمة عليه»[33].

قال لله تعالى عن الذين يرفضون أن يأتي رسول الهدى من بين العرب و يحسدون آل إبراهيم على ما أتاهم الله: ]أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا {53} أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا {54} فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا {55} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا {56}[ (سورة النساء).

فتح الشام و مصر

كان الروم يستعبدون سكان الشام و مصر و شمال إفريقيا و هؤلاء السكان كانوا ينتقلون من الجيل الرابع إلى الجيل الأول، و يتطلعون للخلاص من حكامهم الروم. و من المشهور في التاريخ ما كان من الاستقبال الحافل الذي استقبل به أهلُ الشام عمرَ و ما كان من أن سموه "الفاروق" و تعني بالسريانية "المنقذ". و قد قدم سكان تلك المناطق المساعدات الكثيرة للجيوش الإسلامية الفاتحة. و فتح أهل حمص أبواب مدينتهم لخالد بن الوليد t بلا قتال. و قدم الأقباط لجيش عَمْرِ بن العاص t خدمات جليلة ليعينهم على طرد الروم من مصر. لذلك وجد الإسلام بيئة خصبة في تلك المناطق خاصة بالشام حيث بلغت العصبية الإسلامية تحت حكم بني أمية ذروتها.



[1] (الأنفال: 63).

[2] أي جعلها وسادة له.

[3] أي لم لا تطلب النصرة لنا من الله تعالى؟

[4] وهو الإسلام.

[5] أي تستعجلون النتائج والثمرات.

[6] صحيح البخاري (3\1322).

[7] في ظلال القرآن: (2/713–715).

[8] رواه النسائي: (6/3).

[9] أخرجه أحمد (3/460–462)، و الطيالسي (2/93). و سنده صحيح [عن زاد المعاد (3/48)].

[10] الاتقان للسيوطي: 3/66 (849 - 911).

[11] البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (745–794 هـ)، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه: (2/42).

[12] مناهل العرفان في علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، دار الكتاب العربي: (2/197).

[13] تفسير المنار، رشيد رضا: (10/166).

[14] في ظلال القرآن، ص: 1580.

[15] في ظلال القرآن، ص: 1582، و فقه الدعوة اختيار أحمد حسن: (ص 217–222)، و أهمية الجهاد.

[16] مجموع الفتاوى (13/29).

[17] تاريخ الطبري (2\277).

[18] انظر: البخاري مع الفتح (7/693).

[19] البخاري مع الفتح (7/690).

[20] انظر: البداية و النهاية (6/320).

[21] و لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجع كتاب: الثابتون على الإسلام أيام فتنة الردة، د. مهدي رزق الله أحمد، حيث أن المؤلف جمع الروايات الصحيحة في هذا الموضوع و ناقشها وفق المنهج العلمي. و كتاب: ترتيب و تهذيب كتاب البداية و النهاية خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، د. محمد بن صامل السلمي (ص78-124) حيث درس المؤلف موضوع الدرة دراسة جيدة، و خرج أحاديثه و آثاره. و كتاب: عصر الخلافة الراشدة د. أكرم ضياء العمر (ص 387-412).

[22] الكامل (2/41) و فتوح ابن أعثم (1/38).

[23] البخاري مع الفتح (3/308).

[24] (البقرة:272).

[25] (ق:45).

[26] رواه البرقاني عن طارق بن شهاب على شرط البخاري، و ذكره الشوكاني في نيل الأوطار.

[27] لا أدري أي عفة للفرس يبكي عليها و هم يبيحون نكاح المحارم.

[28] انظر رسالة الإيمان ص 323 - ميرزا حسن الحائري الإحقاقي - مكتبة الصادق - الكويت ط2 1412.

[29] هو ليس قبره الحقيقي إنما هو مزار يشبه ما يسمى بنَصب الجندي المجهول.

[30] روى علي بن مظاهر –من رجالهم– عن أحمد بن إسحاق القمي الأحوص (شيخ الشيعة و وافدهم) أن يوم قتل عمر بن الخطاب هو يوم العيد الأكبر و يوم المفاخرة و يوم التبجيل و يوم الزكاة العظمى و يوم البركة و يوم التسلية!

[31] انظر بحار الأنوار (45\329) - للمجلسي - مؤسسة الوفاء - بيروت ط2 – 1403.

[32] انظر رجال الكشي (21).

[33] انظر بحار الأنوار (14/41).